إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعين به ونستغفره ،
ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهد الله تعالى فلا مضل له ،
ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ،
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ( صلى الله عليه وسلم ) .
أما بعد : فإن اصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي
هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشر الأمور محدثاتها .
وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
فهذا بحث استلله من كتابي : " بذل الإحسان بتقريب سنن النسائي أبي عبد الرحمن "
بخصوص خرور المصلي من الركوع إلى السجود ، أيكون على اليدين أم على الركبتين
ومع أن المسألة ليست بكل ذاك ، فإني اضطررت إلى فصلها
من الكتاب المشار إليه ، ونشرها لمناسبة عرضت .
ذلك أنني دخلت مسجداً لأصلي المغرب في نحو العاشر من شهر ذي الحجة سنة 1399 هـ
فلما قضيت الصلاة قعد لفيف من الشباب يتحدثون همساً ،
ثم لم يلبثوا إلا قليلاً حتى تحول الهمس إلى معركة كلامية ، وتراشق بسهام الملام .
فكان مما سمعته من أحدهم ـ ويظهر من سياق كلامه أنه ممن يقدم الركبتين في النزول ـ
وأنه قال : " لا يقدم اليدين على الركبتين في النزول إلا جاهل ،
وكيف يجرؤ رجل على نقض ما قاله ابن القيم في " زاد المعاد " ؟
لقد رجح النزول بالركبتين من عشرة أوجه " ! !
فقال له مخالفه : " كيف تصم المخالف بالجهل وفيهم مثل
ابن سيد الناس والحافظ والشيخ الألباني " ؟
فأجابه : " هؤلاء محدثون لا تعلق لهم بالفقه ،
وبالذات الألباني فإنه هو الذي أحيا هذه المسألة في كتابه " صفة الصلاة "
.
ثم دار كلام لا أحب حكايته ، فضربت عن ذكره صفحاً ، أما محصلته فمحزنة مؤلمة ،
فقد انتهى شجارهم هذا إلى فاصل رديء
من الشتم للعلماء ومنهم ابن القيم والحافظ وكذا الألباني .
فما تركت مقامي حتى تكلمت مع ذلك الشاب النافر بمزيد من الحكمة والموعظة الحسنة فوجدته حديث عهد بمعرفة كتب السلف ،
فتدرجت معه ، وتبين لي أن أقرانه استنفروه ، فنفر
وأن فيه اندفاعاً غير حميد فكلمته طويلاً فكان مما قلته له : "
أما مسألة النزول إلى السجود فلا علاقة لها بالفقه وأصوله إلا من طرف يسير ،
وإنما تعلقها بالحديث وأصوله أكثر ،
فأنت تزري على أمثال هؤلاء السادة الأكابر بقولك " هم محدثون "
وكأنها سبة لهم فبالله عليك ارفق بنفسك ولا تنظر إليهم النظر الشزر ولا ترمقهم بعين النقص
ولا تعتقد فيهم أنهم من *** محدثي زماننا ،
حاشا وكلا ، فما منهم من أحد إلا وهو بصير بالدين ، عالم بسبيل النجاة .
فإني أحسبك لفرط هواك تقول بلسان الحال ، إن أعوزك المقال : من المزي ؟
ومن العراقي ، وأي شيء الذهبي ؟ وأيش ابن حجر ؟ هؤلاء محدثون ، ولا يدون الفقه
وأصوله ولا يفقهون الرأي ولا علم لهم بالبيان والمعاني والدقائق ، ولا خبرة لهم بالبرهان
والمنطق ، ولا يعرفون الله تعالى بالدليل ولا هم من فقهاء الملة . فأمسك عليك لسانك ،
وليسعك بيتك . وابك على ما أخطأت فيه فإن العلم النافع ما جاء [ إلا ] عن أمثال هؤلاء ،
وإنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذوو الفضل . فمن اتقى الله راقب الله واعترف بنقصه .
ومن تكلم بالجاه أو بالجهل فأعرض عنه ، وذره في غيه ، فإنما عقباه وبال .
فرحم الله امرءاً أقبل على شأنه وقصر من لسانه ، وأقبل على تلاوة قرآنه وبكى على زمانه وأدمن النظر في الصحيح ،
وعبد الله قبل أن يبغته الأجل . اللهم فوفق وارحم " ( ( أ ))
أما كون الواحد منهم أخطأ في مسألة أو أكثر فسم لي أنت من كانت له العصمة
بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ،
فلا لوم على من درس الأصول ، فصوابه مشكور ، وخطؤه مغفور ، وهو على كل حال مأجور .
إنما اللوم والتوبيخ على الذين لا فقه عندهم ولا تعبوا
في تحصيل العلوم ولا النظر فيها إذ يخطئون الأئمة ،
ويتبعون توهيم بعضهم لبعض في مسائل ،
فيجمعون ذلك ويحفظونه ثم يلقونه على من لا علم عندهم
بل ولا أدب لديهم . فلا يعرف عن النووي إلا أنه أخطأ في كذا وكذا . فإذا ذكر أمامه قال : وأي شيء النووي ؟ !
لقد أخطأ في كذا وكذا ، فهم رجال ونحن رجال ! فيا أخي : راقب الله فيما تقول وترحم على
من ذكر منهم وإياك والفتوى من غير علم فكثرة الفتوى من قلة التقوى
ولقد كان أبو حصين وهو من أجلة الناس ينكر على أهل زمانه ـ مع علمهم ـ كثرة الفتوى ويقول : "
إنكم لتفتون في المسألة التي لو عرضت على عمر لجمع لها أهل بدر " !
وليكن ديدنك ما فعل أبو مسلم الخولاني فإنه كان يقوم الليل
فإذا أدركه الإعياء ضرب رجليه قائلاً : أنتما أحق بالضرب من دابتي . أيظن أصحاب
محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يفوزوا به دوننا ، والله لأزاحمنهم عليه حتى يعلموا أنهم خلفوا من بعدهم رجالاً " .
أما مسألة النزول باليدين أو بالركبتين فلا تبطل الصلاة بالنزول بأحدهما
كما حققه شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه في " الفتاوى الكبرى " .
وهذه الرسالة قد استللتها لك خاصة ، فانظر لما فيها بعين الاعتبار ثم بادر إلى تحقيق
ما فيها إذ هو الصحيح إن شاء الله تعالى . وقد يفوتني الشيء بعد الشيء فيها ،
وذلك أمر وارد ، فإني ما قصدت أن أتقصى ذلك فإنه ليس في مقدوري
ولا يسلم الاستقصاء كل الاستقصاء لأحد ، ثم إن المسألة ليست بكل ذاك
حتى نقيم الدنيا ونقعدها ، فإن أمتنا مفككة أوصالها منفصمة عراها
فالاختلاف في هذه المسائل الفرعية بهذه الحدة لا يزيد الأمر إلا اشتعالاً ،
ويجعل خاتمة أمرنا وبالاً فاللهم وفق إلى العلم النافع والعمل الصالح،
ويسر ما عسر من أمرنا ، وآت هذه الأمة أمر رشد ، يعز فيه أهل طاعتك ،
ويذل فيه أهل معصيتك ، ويؤمر فيه بالمعروف ، وينهى فيه عن المنكر . والحمد لله رب العالمين .
كتبه أبو إسحق الحويني
حفطه الله