المادة الثانية من الدستور بين التفعيل والتعطيل
11-ربيع أول-1432هـ 14-فبراير-2011 عدد الزوار: 4119
كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فنحاول في هذا المقال مناقشة المادة الثانية مِن الدستور المصري، وخطورة التعرض لها بإلغاء أو تعديل إلى صيغة أضعف مما هي عليه الآن.
وفي هذا السياق نحتاج إلى التذكير السريع بعدة نقاط موجزة قبل الشروع في المقصود، ونرجو مِن الله أن نتمكن مِن تفصيل هذه النقاط المجملة في مقالات قادمة -بإذن الله-.
1- عَرِف الغرب في تاريخه عدة نظم للحكم كان أبرزها:
أ- الدولة الدينية: والتي يحكم فيها أفراد يزعمون استمرار نزول الوحي عليهم بنظرية التفويض أو الإلهام، ومِن ثمَّ ففي كل ما يحدث مِن حوادث لا يجوز لمن يؤمن بهذه الدولة ودينها أن يخالف رأي هذه الطائفة، وهو مذهب أوروبا في العصور الوسطى.
ب- نظام الحكم العالماني: الذي عرفته أوروبا قبل النصرانية، ثم عادت إليها بعد أن اكتوت بنيران الطغيان الكنسي، ويتكون في صورته الأكثر قبولاً الآن مِن النموذج الديمقراطي الذي يجعل الشعب هو مصدر السلطات، ويُقسِّم السلطة إلى ثلاث سلطات: تشريعية، وقضائية، وتنفيذية.
2- نظام الحكم الإسلامي يخالف كلاً مِن النظامين الغربيين خلافًا جذريًا؛ فالشريعة فيه حاكمة على كل أحد، وحق التشريع فيه حق خالص لله -عز وجل-، (إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ) (الأنعام:57).
والرسول -صلى الله عليه وسلم- مبلِّغ: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) (النجم:3).
والمجتهدون مستنبطون: (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (النساء:83).
والقضاة مثلهم مثل القضاة في أي نظام؛ يطبقون التشريع الذي يأتيهم مِن المشرِّع.
3- يحلو للمطالبين بتطبيق نظام الحكم العالماني في بلادنا أن يُسموه: "نظامًا مدنيًا"؛ هروبًا مِن الظلال السيئة لكلمة: "العالمانية"؛ ولأن كلمة: "مدنية" قد تُظن أنها ضد العسكرية أو ضد الهمجية مما يضفي عليها قبولاً، بينما يريدون بها: "الدولة العالمانية" التي تفصل الدين عن الحياة؛ لا سيما وأن معظمهم يُظهِر تدينًا في الجزء الذي تسمح به العالمانية "العلاقة الخاصة بين العبد والمعبود الذي يختاره"!
4- لا يجوز لنا بحال مِن الأحوال أن نخفض سقف آمالنا ومطالبنا العادلة في أن نعيش الإسلام كما شرعه الله لنا؛ "منهج حياة": (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام:162-163).
نريد أن نعيش والإسلام هو مصدر نظم مجتمعنا، كما أنه مصدر عقيدتنا وعبادتنا، ولكن حتى تأتي هذه اللحظة لابد لنا مِن تقليل الشر والفساد.
ومِن ثمَّ فمتى عشنا في دولة مدنية فيجب علينا أن نحاول قدر الإمكان أسلمة ما يمكن منها دون التنازل عن توضيح الصورة الواجبة المطلوبة، وإلا فلو حصلنا على بعض إصلاحات فوصفناها بأنها هي المطلوب شرعًا؛ فسيكون هذا تحريفًا للدين وخيانة للأجيال القادمة.
5- الدولة المصرية الحديثة في مصر أسسها "محمد علي" وأبناؤه كانت ذات توجه عالماني ساهم في تكريسه الاحتلال الفرنسي ثم الإنجليزي لمصر، والذي حرص على إقامة دولة عالمانية في مصر؛ لقطع الطريق عليها في إعادة الاندماج في دولة الخلافة، أو أن تكون هي عاصمة الخلافة الجديدة بعد سقوط الخلافة في تركيا، وقد ولدت الدولة المصرية مستكملة لأركان الدولة المدنية الحديثة في وقت مبكر جدًا.
6- الذي يعنينا في هذا الشأن هو الكلام على الجانب التشريعي الذي حرص الاحتلال على تكريس العالمانية فيه عن طريق: وضع دستور مكتوب، ثم قانون مدني مكتوب يُكرِّس لمبادئ العالمانية، والتي استطاعت الصحوة الاسلامية أن تنتزع تحسينات جوهرية عليه لا يجوز بحال التفريط فيها، وتمثلت في شلِّ التوجه العالماني في النظام التشريعي عن طريق ذكر مرجعية الشريعة في الدستور.
7- في ظل التحرش بالمادة الثانية مِن الدستور الآن: نريد أن نعرف بعض الخلفيات القانونية، والتاريخية.. يأتي بيانها في النقاط التالية:
8- ما هو الدستور؟
السلطة التشريعية هي: إحدى السلطات الثلاث التي يقوم عليها نظام الحكم في الدولة المدنية، وهو أخطرها على الاطلاق.
والنظام الديمقراطي يجعل الشعب هو مصدر هذه السلطات؛ ومن ثَمَّ فقد جرى العمل على أن تصاغ تطلعات الأمة وتوجهاتها العامة في شكل قواعد محددة تمثل العقد الاجتماعي بين الشعب والسلطات الثلاث، وتبين كيفية إفراز هذه السلطات، و يصطلح على تسميتها بالدستور، وهو أشبه ما يكون في علومنا الشرعية بعلم: "القواعد الفقهية".
إذن فالدستور هو: "أبو القوانين" المهيمن عليها، بل هو الموجه الرئيسي لأداء السلطة التنفيذية، ويُعرِّفه القانونيون بأنه هو: "القانون الأعلى الذي يحدد القواعد الأساسية لشكل الدولة "بسيطة أم مركبة؟"، ونظام الحكم "ملكي أم جمهوري؟"، وشكل الحكومة "رئاسية أم برلمانية؟"، وينظم السلطات العامة فيها مِن حيث التكوين والاختصاص، والعلاقات التي بين السلطات، وحدود كل سلطة، والواجبات والحقوق الأساسية للأفراد والجماعات، ويضع الضمانات لها تجاه السلطة".
9- وضع أول دستور مصري عام 1882، وكان عالمانيًا قحًا، ولم يكن فيه أدنى إشارة إلى هوية الأمة وتميزها عن أمة الاحتلال.
10- وكردِّ فعل للمد الثوري في مصر تم وضع دستور 1923، والذي لم يختلف كثيرًا عن سابقه في احتقار هوية الأمة، وهو شيء طبيعي لدستور كُتب في ظل الاحتلال.
وتمثل هذا في:
- خلو الدستور من أي ذكر للشريعة الاسلامية.
- وضع المادة الخاصة بدين الدولة ولغتها في ترتيب متأخر جدًا في الباب السادس مِن الدستور المعنون بعنوان: "أحكام عامة" وبرقم: 149.
فهل يمكن بعد ذلك لمسلم أن يعطي صوته لمرشح لمنصب الرئاسة ينادي بالعودة إلى دستور 1923؟!
11- ظهرت الشريعة على استحياء في القانون المدني المصري لعام 1949، والذي تضمن خطابين: أحدهما: للسلطة التشريعية، والثاني: للسلطة القضائية، ووضع الشريعة في المرتبة الثالثة لكل منهما.
فأما السلطة التشريعية: فقد خاطبها باستمداد الأحكام مِن:
1- أحكام القانون المدني السابق، والذي صدر عام 1883 في ظل دستور 1882.
2- القوانين اللاتينية لا سيما الفرنسي.
3- ثم جاءت الشريعة الإسلامية في المرتبة الثالثة.
وأما القاضي فخاطبه أن يحكم:
1- بالمنصوص عليه في القانون.
2- فإن لم يجد فبالعرف.
3- فإن لم يجد حكم بالشريعة الإسلامية.
12- قامت ثورة يوليو 52، وألغت العمل بدستور 1923، وأصدرت بعده عدة بيانات دستورية لا ترقى إلى أن تكون دستورًا.
13- بعد نكسة يونيو 67 ظهرت الروح الإسلامية قوية، وعرفت الأمة أنها لا عز لها إلا في الاسلام.
14- ظهر هذا جليًا في الدستور الدائم لمصر عام 1971، والذي اعتنى بهوية الأمة؛ فكان نص المادة الثانية منه -والتي تقع في الباب الأول الذي يتكلم عن شكل الدولة-: "دين الدولة الرسمي الإسلام، ولغتها العربية، والشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع فيها".
15- كان مِن نتاج ذلك أن وافقت الأمة على الدستور، وانطلقت عجلة الإصلاح التي كان مِن نتاجها صور البطولة النادرة التي أظهرها الجنود في حرب العاشر مِن رمضان، والتي استعمل الجيش فيها العمليات الاستشهادية لتفجير حقول الألغام، وسد فوهات الدبابات برؤوسهم وأجسادهم.
16- بعد الحرب بدأت عجلة القوانين المخالفة للشريعة تدور، وبالطعن عليها أمام المحكمة الدستورية العليا كان التفسير: "إن وجود مصدر رئيسي لا يعني عدم وجود مصادر فرعية"؛ مما يعني أن المادة عديمة الفائدة.
17- وفي عام 1980، وعندما أراد الرئيس المصري آنذاك أن يفتح مدد إعادة الترشيح للرئاسة، وحتى يقبل الناس ذلك في الاستفتاء أدخل معها تعديلاً على المادة الثانية باضافة "ال" إلى كلمة مصدر؛ لتصبح: "الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي مِن مصادر التشريع".
18- عند الطعن بعدم دستورية بعض الأحكام المخالفة للشريعة قررت المحكمة الدستورية العليا ثلاث نقاط في غاية الأهمية:
الأولى: أن المادة بهذه الصياغة تمنع مِن سن قوانين جديدة مخالفة للشريعة.
الثانية: أن المادة تخاطب السلطة التشريعية لا القضائية، ومِن ثمَّ فلا يجوز للقاضي أن يترك القانون الصادر عن السلطة التشريعية بحال، ومهما كان مخالفًا للشريعة.
الثالثة: أن القوانين التي سبق سنها قبل هذا التعديل الدستوري اكتسبت حصانة دستورية، ولا يمكن إسقاطها إلا بنص صريح مِن السلطة التشريعية.
وبناء عليه: فإننا نطالب بتفعيل المادة الثانية مِن الدستور على كل القوانين السابقة على هذا التعديل؛ لتكون كل القوانين موافقة للشريعة.
19- سؤال: هل حمت "المادة الثانية" مصر مِن فساد الجهات التنفيذية؟ وهل أفادتها تشريعيًا؟
الجواب: إن التشريع حتى إن كان شرعيًا مائة بالمائة لا يمكن أن يمنع فساد التنفيذ، وإنما منع فساد التنفيذ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعدم ترك الظلم ينمو حتى يصير أمرًا واقعًا، وأما تشريعيًا فنحن بحاجة إلى تفعيل المادة حول القوانين القديمة.
وأما الحديث منها: فقد وقفت هذه المادة أمام القوانين الكارثية التي طالبت مؤتمرات السكان بها -على سبيل المثال-: من إباحة الشذوذ، والاجهاض، وغيرها مِن القوانين.. ولم يمر إلا ما وجد له بعض العلماء -أصلحهم الله- مخرجًا: كرفع سن الرشد إلى ثمانية عشر عامًا استنادًا لمذهب منسوب إلى أبي حنيفة -رحمه الله-، ولكنهم طبقوه على غير وجهه، ويكفي أن تعرف أن ثمانية عشر عامًا قمرية تعادل نحو ستة عشر عامًا ونصف العام شمسية، ومع هذا فهذا العور كاف في الطعن بعدم دستورية ذلك القانون.
20- مع الأخذ في الاعتبار أن هذه المادة لها أثر كبير في شكل العلاقة بين المواطنين ونظام الحكم، وفي حذفها توهين شديد لها.
21- الحاصل: يجب على جميع الأمة:
1- الرفض القاطع لأي استفتاء يجرى على حذف هذه المادة، مهما وضع في هذا الاستفتاء مِن محفزات أخرى تغري بالموافقة.
2- الرفض القاطع لأي تعديل لنصها، لا سيما التعديل الخبيث المتوقع بحذف "ال".
3- رفض إلغاء الدستور الحالي، بل تعديل كل المواد المطلوب تعديلها منه مع بقائه؛ ضمانًا لبقاء هذه المادة.
4- وفي حالة إلغاء الدستور وعمل أي دستور جديد لا يتضمن هذه المادة لا يصوَّت عليه بالموافقة؛ مهما كان مدغدغًا للعواطف بدون هذه المادة.
نحن ورثنا وضعًا ما، إما أن نصلحه، أو على الأقل نحافظ عليه.
وأما أن نزيده سوءًا؛ فلا.. وألف لا..
وفقنا الله لما يحب ويرضى.